حرب اليمن وحرب أوكرانيا أوجه الشبه والاختلاف
بعد أيام قليلة تدخل الحرب بين روسيا وأوكرانيا عامها الثاني، ومنذ اندلاعها إلى يومنا هذا عصفت رياح هذه الحرب بالعالم بأسره وتسببت ـ ولازالت ـ في دوامة هائلة من التوترات والتكتلات لم يشهدها تاريخ البشرية الحديث منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
بداية قبل أن أتحدث في موضوع هذا المقال أود أن أؤكد بوضوح أنني كانسان وكفرد ضد فكرة الحرب بحد ذاتها بغض النظر عمن يشنها وبغض النظر أيضا عن الأسباب والمبررات والدوافع التي قد تجادل وتحاجج بها الأطراف المتحاربة.. أنا شخصيا أنتمي لبلد دمرته – ولا زالت تدمره – حرب تسببت في مقتل ما يقرب من الأربعمائة ألف من ابنائه بينهم عشرات الآلاف من النساء والأطفال وهو رقم مهول للغاية ويجعل الحديث عن أي مبررات للحروب والنزاعات المسلحة أمرا في غاية البشاعة!
ad
كان لا بد من هذا التوضيح لأن ما يجري في أوكرانيا قسم العالم إلى قسمين: مع وضد! وكل طرف يسوق حججه – و ربما أكاذيبه أيضا، وحتى مع تقدم وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي العابر للحدود والقارات فإن حجم التضليل والتزييف لا يزال كبيرا ويلعب دورا في التأليب والتوجيه في اتجاهات معينة ولأغراض مختلفة، و كما تقول الحكمة المشهورة ” الحقيقة هي أول ضحايا الحرب” لذا فإن ما دفعني لكتابة هذا المقال ليس الرغبة في أن أكون “مع” أو “ضد” ، لكن من خلال متابعتي للأحداث و لمجريات هذه الحرب تولدت عندي ملاحظات و انطباعات معينة ووجدت نفسي لا شعوريا أقارن بين هذه الحرب وبين الحروب التي تشهدها منطقتنا العربية وخصوصا الحرب العبثية التي تدور رحاها في اليمن، وهي ملاحظات بعيدة كل البعد عن محاولة لوم طرف أو تبرير لآخر، فمجريات الأحداث متاحة للجميع و مثلها أيضا حقائق التاريخ والجغرافيا.
إن ما لفت انتباهي في هذه الحرب منذ البداية هو نقاط التشابه بين الصراع الحاصل هناك على تخوم أوروبا وبين الحرب التي تشهدها اليمن منذ ثمانية أعوام برغم المسافة المكانية والزمانية التي تفصل بين منطقتي النزاع!
ولمعرفة أوجه التشابه هذه يجدر بنا التقليب قليلا في صفحات التاريخ القريب و كما يقول الأستاذ الكبير محمد حسنين هيكل” الاهتمام بالسياسة فكراً و عملاً، يقتضى قراءة التاريخ أولاً”.. بالنسبة لليمن ومحيطها الجغرافي فالمتابع لتاريخ المنطقة يدرك حجم التوتر والخلافات الموجودة بين دولها، خصوصا بين اليمن والمملكة العربية السعودية، لقد شهدت العلاقة بين البلدين أزمات عديدة اشتدت حدتها بعد تحقيق الوحدة بين جنوب وشمال اليمن عام 1990 مرورا بغزو العراق للكويت والذي حظى بتأييد سياسي وشعبي يمني، ثم حرب الانفصال بين شطري اليمن الموحد عام 94 والتي دعمتها بعض الدول المجاورة كنوع من رد الفعل والانتقام من موقف اليمن تجاه حرب الكويت.
وفي المحصلة فإن الدولة الخليجية الأكبر من حيث النفوذ في المنطقة وهي المملكة العربية السعودية كانت ولا زالت تنظر إلى اليمن كمصدر خطر يجب السيطرة عليه أو تحييده قبل حتى أن يكشر عن أنيابه أو تبدر منه أية تهديدات حقيقية. ولهذا السبب ولضمان السيطرة انفقت السعودية منذ سبعينات القرن الماضي الكثير في سبيل شراء مختلف الولاءات في اليمن حتى أن السعودية وفي سابقة لم يشهدها العالم من قبل قامت بتأسيس لجنة خاصة لهذا الغرض بالذات ميزانيتها بالمليارات!
في حالة روسيا وأوكرانيا تبدو المسألة قريبة الشبه ولكن بشكل عكسي، فمنطقة اليمن الجغرافية من سواحل البحر الأحمر غربا وبحر العرب جنوبا وغربا شهدت قيام واحدة من أقدم الحضارات في المنطقة وقد امتدت حدود بعض الممالك اليمنية القديمة واتسعت لتشمل أجزاء كبيرة من شبه الجزيرة العربية فيما يُعرف الآن بسلطنة عُمان والسعودية بل وأجزاء من جنوب العراق وسوريا وذلك في القرن العاشر قبل الميلاد! أي أن اليمن لم تكن يوما ما امتدادا أو تابعا للسعودية التي تأسست دولتها الأولى عام 1727 قبل أن تنهار ثم تتمكن من الوصول إلى شكلها الحالي الذي تأسس عام 1932 على يد الملك عبدالعزيز بن سعود.
أما بالنسبة لروسيا وأوكرانيا فالأمر مختلف، فروسيا منذ زمن بعيد تنظر إلى أوكرانيا كجزء من تاريخها وثقافتها وفضائها المعنوي، كما أن عاصمة الإمبراطورية الروسية قبل ثلاثمائة عام لم تكن موسكو وإنما كييف، والتمازج والتداخل بين الشعبين قوي وضارب في القدم. وبالنسبة للتاريخ القريب بين البلدين فعلى عكس طريقة السعودية في “شراء” الولاءات الفردية، قامت روسيا بدعم أوكرانيا اقتصاديا بعد تفكك الاتحاد السوفيتي واستقلال أوكرانيا، وقد بلغ إجمالي الدعم الذي قدمته روسيا للميزانية الأوكرانية، في الفترة الممتدة من 1991 حتى 2013 نحو 250 مليار دولار، كما تجاوز حجم التجارة بين البلدين في 2011 مبلغ 50 مليار دولار. وهو رقم يجب أخذه بعين الاعتبار إذا عرفنا أن حجم تجارة أوكرانيا مع جميع دول الاتحاد الأوروبي في عام 2019 كان أقل من هذا المؤشر.
ولو أن السعودية تبنت سياسة الدعم الاقتصادي والتجاري مع جارتها اليمن بدلا من أسلوب شراء الولاءات الفردية والحزبية والمذهبية والتعامل بطريقة التابع والمتبوع، لكان بإمكانها أن تكسب قاعدة شعبية كبيرة في أوساط الشعب اليمني نفسه وبمقابل عُشر ما أنفقته وتنفقه منذ عقود من أجل ضمان السيطرة ومحاولة إبقاء اليمن في حالة من التبعية اعتقد صُناع القرار في السعودية أنها الضامن لأمنهم وأمانهم.
وحين تفاقمت الأزمة بين روسيا وأوكرانيا عام 2014 بعد اسقاط الرئيس الأوكراني ياكونوفيتش واشتعال النزاعات المسلحة في المناطق الشرقية المتاخمة لروسيا التي تطالب بالانفصال عن أوكرانيا، حاولت الدول الأوروبية احتواء الأزمة آنذاك وتم التوصل إلى اتفاقيتي منسك الأولى والثانية، لكن الأزمة بين روسيا وأوكرانيا اشتعلت مجددا وبقوة بسبب تحركات الأخيرة في اتجاه الانضمام إلى حلف الناتو ورغبتها في امتلاك السلاح النووي وهي الأمور التي تعتبرها روسيا تهديدا حقيقيا موجها ضد أمنها القومي. وقد اتهمت تقارير روسيةأوكرانيا بأنها سمحت بتواجد وحدات عسكرية تابعة لحلف الناتو على أراضيها بزعم إجراء مناورات مشتركة. وحيال ما اعتبرته روسيا خطرا على أمنها القومي أعلن الرئيس الروسي بوتين في 24 فبراير الماضي بدء عملية عسكرية خاصة في أوكرانيا.
وفيما يتعلق بجبهة اليمن ـ السعودية، فقد بدأت التوترات تشتد بين البلدين وتتصاعد بحدة أيضا في أواخر عام 2014 حين تمكنت القوات التابعة لجماعة الحوثيين من السيطرة على العاصمة صنعاء وفرضوا وجودهم على الساحة السياسية بقوة السلاح، وتصاعدت الأحداث التي أدت إلى وضع الرئيس اليمني آنذاك عبدربه منصور هادي قيد الإقامة الجبرية ثم هروبه إلى عدن ومنها إلى السعودية حيث تم الإعلان عن طلب يمني رسمي قُدم للسعودية من أجل التدخل في اليمن عسكريا، وتزامنت هذه الأحداث مع المناورات العسكرية التي قامت بها الجماعات والقوات المسلحة التابعة أو المؤيدة للحوثيين على الحدود الجنوبية للسعودية في 12 مارس 2015. وفي 26 مارس في نفس العام أعلنت السعودية الحرب على اليمن تحت مسمى “عاصفة الحزم”.
ولا بد من التوقف هنا والإشارة إلى التصريح الشهير التي صدر عن المبعوث الأممي إلى اليمن جمال بن عمر في 27 ابريل 2015 والذي أكد فيه إن اليمنيين “كانوا قريبين من التوصل إلى اتفاق” قبل بدء غارات تحالف عاصفة الحزم، في إشارة غير مباشرة إلى مسئولية السعودية والتحالف الذي تقوده في افشال المفاوضات بين الأطراف اليمنية.
ولمعرفة الفرق بين الحربين أي الحرب بين روسيا وأوكرانيا التي تدخل عامها الثاني وبين الحرب بين السعودية واليمن التي توشك على دخول عامها الثامن يجب النظر إلى الفرق الشاسع بين الدول والأهداف الاستراتيجية والظروف الجيوسياسية التي تحيط بالحربين. فروسيا دولة نووية عظمى خاضت بالفعل حربين عالميتين قُتل فيهما عشرات الملايين من ابناءها، وعلى مستوى القتال في الميدان تخوض روسيا هذه الحرب بمفردها، بينما يقف الغرب بأكمله مع أوكرانيا ممثلا في حلف الناتو (أوروبا وأمريكا) الذي قدم مساعدات عسكرية لأوكرانيا بعشرات المليارات وفرض مئات العقوبات على روسيا ومع ذلك تتقدم روسيا في ميادين القتال في ظل انهيار الدفاعات الأوكرانية.
أما بالنسبة للأهداف الاستراتيجية فالمُلاحظ أنه قبل بدء الهجوم الروسي وإلى ما بعد دخول القوات الروسية إلى أوكرانيا كانت القيادة الروسية واضحة في تحديد أهداف تحركها العسكري (سواء اختلفنا أو اتفقنا مع هذه الأهداف من ناحية سياسية أو انسانية) وهو منع انضمام أوكرانيا لحلف الناتو وحماية القوميات الروسية الموجودة في شرق البلاد. بينما غلب الطابع “الإنشائي” على تصريحات القيادة السعودية في حربها ضد اليمن وافتقرت لتحديد الغايات والأهداف، فشعارات مثل “كسر يد إيران في المنطقة” أو “إعادة السلطة الشرعية المُنتخبة” أو “تحرير اليمنيين من المد المجوسي الفارسي…الخ” قد تكون مناسبة للجلسات الشعرية أو المسابقات الأدبية لكن على أرض الواقع يجب أن تكون الأهداف الإستراتيجية للحرب واضحة ومحددة إذا ما أخذنا بعين الاعتبار المقولة الشهيرة للمفكر كارل كلاوفيتز بأن الحرب هي ” امتداد للسياسة ولكن بطريقة أخرى..”
كما أن السعودية وطوال حربها ضد اليمن ليست بمفردها حيث حظيت منذ البداية بالتأييد والدعم الأمريكي والأوروبي العسكري واللوجيستي والاستخباراتي، ولم تشذ عن هذه القاعدة إلا ألمانيا التي أبرمت بالفعل صفقات أسلحة مع السعودية والإمارات ثم أعلنت فيما بعد عن حظر لتوريد السلاح لهذه الدول بسبب حرب اليمن (وهذا الحظر ليس دائما حيث تتم مراجعته ومن ثم تجديده كل ستة أشهر!)
وكما استهان خصوم روسيا بقوتها وقدراتها، استهانت السعودية كثيرا بقوة خصمها وكان هذا واضحا من التصريحات النارية الطموحة التي صدرت في بداية الحرب، وإذا بالحرب التي اعتقدت السعودية أنها ستحسمها في بضعة أسابيع تطول لسنوات، بل أن اليمنيين تمكنوا من التكيف وامتصاص الصدمة وقاموا باستلام زمام المبادرة وباتت صواريخهم ومُسيراتهم سواء بدعم إيراني أو بجهود وقدرات محلية تضرب وتهدد المنشآت والأماكن الحيوية في العمق السعودي والإماراتي، ولولا الدعم الغربي عموما والأمريكي تحديدا بشقيه اللوجيستي والعسكري لكانت خسائر السعودية في هذه الحرب غير المتكافئة قد فاقت كل التقديرات والتوقعات.
وختاما فإن من الاختلافات الكبيرة والمحزنة للغاية بين الحرب في أوكرانيا والحرب في اليمن هو النفاق الدولي والإعلامي الذي يكيل بمكيالين، فبينما يُسلط الاعلام الغربي الضوء ليل نهار ومنذ الأيام الأولى للحرب على معاناة الأوكرانيين ـ والتي تستحق التعاطف بالتأكيد ـ نجده يغض الطرف منذ سنوات عما يجري في اليمن من حرب إبادة وحشية لم تسلم فيها حتى المدارس والمستشفيات وصالات الأعراس من القصف و الاستهداف، حرب قُتل فيها مئات الآلاف من المدنيين بينهم نساء وأطفال وتكفل الحصار الجائر على البلد في تفشي المجاعة والأمراض، ومع ذلك لا يذرف العالم الدموع على هذا البلد البائس الذي أوقعه حظه العاثر في براثن التاريخ و مصائب الجغرافيا!
كاتب يمني مُقيم في ألمانيا
المصدر صحيفة راي اليوم
تعليقات